◄(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا) (البقرة/ 256).
(إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7).
الناس متفاوتون بقابليّاتهم وإمكاناتهم الذاتية والاجتماعية، فالناس متفاوتون في الذكاء والإرادة والقوّة البدنية، والتركيب النفسي والوجداني... إلخ.
كما أنّهم متفاوتون أيضاً بإمكاناتهم الاجتماعية التي حصلوا عليها من خلال وضعهم الاجتماعي، كالعلم والمال والسلطة والمكانة الاجتماعية، وكثرة الأهل والعشيرة والأعوان والأتباع، والناس بطبيعتهم يختلفون في طريقة تفكيرهم وتعاملهم مع الآخرين، وكيفية توظيفهم لما يملكون من طاقات وإمكانات ذاتية واجتماعية.
فمن الناس مَن يحمل في نفسه روح المحبّة والتواضع، والعفو والتسامح، وحبّ الخير للجميع والرغبة في البناء والإصلاح، ومن الناس مَن يتعامل بروح العدوان والاستعلاء، والأنانية وعبادة الذات والطغيان ويعمل على الهدم والتخريب.
والحياة في نظر القرآن الكريم بناء إنساني يقوم على أساس الحقّ والعدل والمساواة واحترام الإنسان.. من بياناته المؤسِّسة لهذا المنهج قوله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90).
(بِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (الإسراء/ 105).
ولا تنتظم الحياة إلّا إذا تعايش الناس فيما بينهم على أساس الشعور بالعدل والمساواة، وإلّا إذا وجد العدل، واحترم كلّ إنسانٍ حقوق الآخرين، والتزم حدوده، ولم يتجاوز على غيره، وذلك ما كان يوصي به الإمام عليّ (ع) ابنه الحسن (ع) ويُثبِّته منهجاً وشريعةً للحياة، قال (ع): "يا بُني اجعَلْ نَفسَكَ مِيزاناً فيما بَيْنكَ وبَيْنَ غَيْرِكَ، فاحبِب لغيرك ما تُحِبُّ لنفسك، واكرَهْ له ما تكرَه لها"[1] .
ويُسمِّي القرآن القانون والنظام حدوداً، لأنّها تُحدِّد الأشياء، وتُشخِّص أحكام الموضوعات بحدودها وتعريفاتها الواقعية، وبها يعرف كلّ إنسان ما له وما عليه. نأخذ لذلك مثلاً حديث القرآن الكريم عن أحكام الطلاق والمواريث والوصية والدِّين وقوانينها، إذ يصفها بقوله:
(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة/ 229).
(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (النساء/ 13).
ويوضِّح الإمام الصادق (ع) مفاهيم التحديد والتقنين في القرآن الكريم بقوله: "إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (ص) وجعل لكلِّ شيءٍ حدّاً، وجعل على مَن تعدّى الحدّ حدّاً"[2].
وإذا عرفناه أنّ لكلِّ شيءٍ حدّاً، وعلى الإنسان أن يحترم تلك الحدود الأخلاقية والقانونية والفكرية، فإنّ التجاوز على تلك الحدود بشعور القوّة والاستعلاء هو طغيان وعدوان، فإنّ تعريف الطغيان: هو تجاوز الحد في المعصية.
إنّ مأساة البشرية وأزماتها الكُبرى فهي من الطغاة والطغيان، فالإنسان عندما يشعر بالقوّة والتفوّق على الآخرين يطغى عليهم بدافع الاستعلاء والاستكبار وروح الظلم والعدوان، وبدافع الأنانية والاستيلاء على ما لديهم من الخيرات ومُتع الحياة، أو بدافع العدوانية وروح الانتقام وبسط السيطرة والنفوذ، وذلك ما يُشخِّصه القرآن بقوله: (إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى).
فيطغى صاحب المال بماله، ويطغى صاحب السلطة بسلطته، ويطغى صاحب القوّة بقوّته، ويطغى صاحب الأهل والعشيرة بأهله وعشيرته، ويطغى صاحب العلم بعلمه... إلخ.
إنّ كلّ هؤلاء يُسخِّر ما عنده من إمكانات لإذلال البشرية والسيطرة عليها واستعبادها، وليس لحماية حقوق الإنسان، وإقامة الحقّ والعدل، وبسط الأمن والسلام في ربوع الأرض.
فيتحوّل هذا الإنسان المتمكِّن إلى طاغوتٍ فكري وأيديولوجي أو إلى طاغوت مُستبدّ بسلطته وقوّته، فيبطش بالآخرين ويذلّهم، ويتجاوز على حقوقهم وكراماتهم وممتلكاتهم بسلطته وسلطانه وقوّته.
من أسوأ حالات الطاغية والطغيان هو ما تعانيه البشرية من حروب واستعمار وسيطرة القوى الدولية الطاغية على الشعوب والأُمم الضعيفة، بما يملك أولئك الطغاة من أسلحة وجيوش وإمكانات علمية ومادّية طاغية، ومثل هذا الطغيان السياسي هو الطغيان العقيدي والثقافي والعنصري.. إذ يطغى أتباع هذه العقيدة أو أبناء هذه القومية على المستضعفين الآخرين. إنّ تلك الصور الحيّة نشهدها كلّ يوم في عالمنا الذي يتحكّم به الطغاة والطغيان.
والقرآن يستنفر كلّ القوى الخيِّرة، ويدعو البشرية إلى أن تكفر بالطاغوت، وترفض الطغيان، وتبتعد عنه وتحشد جهودها وقواها لتحطيم الطاغوت والطاغية وإنقاذ البشرية، وتحريرها من سطوته وسلطانه.
إنّ القرآن يتحدّث عن الطاغوت الفكري والعقيدي الذي يفرض فكره وعقيدته الضالة المنحرفة على البشرية، ويدعو إلى الكفر به، ومقاومة فكره ودعوته.
(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256).
(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر/ 17-18).
ويتحدّث عن الطاغوت العلمي الذي يستخدم العلم للعدوان والسيطرة الظالمة على البشرية وقهرها وإذلالها.
ويتحدّث عن الطاغوت السياسي والسلطوي، ويعرض له نماذج من تاريخ البشرية: فرعون وعاد وثمود... إلخ، وينهى في مواضع أخرى عن الرجوع إلى حكم الطاغوت وقضائه: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (النساء/ 60).
ويتحدّث عن الطاغوت الاجتماعي الذي يطغى باستعلائه الطبقي واحتقار المكانة الاجتماعية للآخرين، ويعرض نماذج كثيرة لذلك، مثل قوله تعالى: (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) (هود/ 27).
(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف/ 31).
(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (هود/ 31).
ويتحدّث عن الطاغوت الذي يطغى بماله وثروته وعشيرته: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا) (الكهف/ 34).
(إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى).
ولنُشخِّص مع القرآن وهو يتحدّث عن هذه الظاهرة الشِّرِّيرة والعدوانية في المجتمع أنّ القرآن تحدّث عن طغيان الإنسان في أوّل آياته التي خاطب بها البشرية، ليُشخِّص مَن هم خصوم الدعوة الإسلامية وعقيدة التوحيد ورسالة الحقّ والعدل والكرام الإنسانية.. جاء هذا البيان في سورة العلق بعد الآيات الخمس الأولى التي خوطبَ بها النبيّ محمّد (ص)، وهي ما نزل من القرآن في غار حراء:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 1-7).
ويُحذِّر القرآن أولئك الطغاة الذين طغوا بما كسبوا من سلطة وملك ودنيا وثروة ونِعَم.. يُحذِّرهم ويُهدِّد بالعذاب، وبالغضب الإلهي الذي يعني العقوبة والانتقام.
(فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 37-39).
(كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (طه/ 81).
وأمامنا مشهد آخر من مشاهد الطغيان والطغاة، يرسمه القرآن لنا من خلال منظومة من الآيات.. نقرأ منها:
(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى) (النجم/ 52).
(وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) (الفجر/ 10-13).
(أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (الذاريات/ 53).
يستعرض القرآن الكريم صوراً من طغاة التاريخ السحيق. قوم نوح وعاد وثمود وفرعون الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، ومارسوا أعمال الجريمة والقتل والتعذيب والاضطهاد، وإشاعة الفساد بمختلف ألوانه، الفساد العقيدي والفساد الأخلاقي والفساد المالي والفساد السلطوي... إلخ.
إنّ الطاغية ينشر الظلم والفساد والجريمة في البلاد.. يُعرِّف القرآن بطاغية من طغاة التاريخ وما حلّ به؛ ليكون عبرةً ودرساً للأجيال، يتّعظ به الطغاة، كما يتّعظ به المستضعفون؛ لئلا يُهزموا ويضعفوا أمام الطاغية، ويتصوّروا أنّ الطغيان لا يزول. عرض القرآن فرعون وصراعه مع نبيّ الله موسى (ع)، الذي حمل راية النبوّة ورسالة الدعوة إلى تحطيم الطاغية فرعون.
إنّ القرآن عندما يتحدّث عن فرعون إنّما يتحدّث عن ظاهرة الطاغية والطغيان، وليس الحديث عن حاكم فرد طغى وانتهى.
نقرأ بعضاً من النصوص المُتحدِّثة عن فرعون الطاغية، وعن سلطة الطغاة وزوالها.. قال تعالى:
(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) (طه/ 43-45).
(اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) (النازعات/ 17).
(وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) (الفجر/ 10-11).
ويُذكِّرنا القرآن الكريم في هذه النصوص أنّ من مهام الأنبياء الأساسية هي مقاومة الطغيان ومحاولة إصلاح الطغاة بالتي هي أحسن، فإن لم يستجيبوا فلهم الويل والعذاب، ويؤكِّد القرآن أنّ واجب الجميع على امتداد العصور هو تحطيم الطاغوت وتحرير الإنسان من سيطرة الطغيان.►
[1]- نهج البلاغة، تنظيم وشرح محمّد عبده، ص555.
[2]- الأصول من الكافي، ج1، باب الرّد إلى الكتاب والسنّة، ص95.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق